فضاءات تاريخية في الرباط تحكي قصص من عبق التاريخ: ساحة محمد بن علي من فضاء للزهور إلى شاشة كبرى لعرض زخم من الألوان

فضاءات تاريخية في الرباط تحكي قصص من عبق التاريخ: ساحة محمد بن علي من فضاء للزهور إلى شاشة كبرى لعرض زخم من الألوان

رغم كون الرباط مدينة حديثة لا تتوغل كثيرا في التاريخ العميق، إلا أن أسوار المدينة التي تنتصب راوية قصص من عمق التاريخ،حتى أصبحت جزء لا يتجزأ من الصورة العامة للمدينة في الماضي والحاضر، إذ يشير المؤرخون بهذا الخصوص إلى أنه تم تشييد هذه المعالم في بدايات القرن الحادي عشر، وأبواب الرباط ليست فقط منافذ يسلكها الناس بل هي شواهد تاريخية لمرحلة مهمة من تاريخ المغرب، بالإضافة إلى قصبة "الأوداية" التي تمتاز بهندسة زخرفية ومعمارية بديعة.

على غرار هذه الأماكن التاريخية التي تستحق أكثر من زيارة، شيد حديثا فضاء يحمل اسم الفنان التشكيلي الراحل محمد بن علي الرباطي،حيث تعرض لوحات تشكيلية لفنانين من مختلف المدارس والتوجهات، الساحة التي اعتبرها الفنان التشكيلي محمد أفقير في تصريح لجريدة سكوب ماروك " شاشة كبرى لعرض زخم من الألوان ذات حمولة ثقافية تراثية، تطرح موضوع الاستلهام اللامحدود باعتبار أن الفنانين يعرضون ويشتغلون في الآن ذاته، مضيفا أن الفضاء نموذجي باعتبار أن الفن رسالة".

فضاء للارتقاء بذوق الجمهور

من يتجول بين شوارع وأزقة مدينة "الأنوار"، الاسم الذي أطلق على مدينة الرباط في سنة 2010، لن يتصور وجود فضاء خاص بالفن التشكيلي في الهواء الطلق بالقرب من المسرح الوطني محمد الخامس، يضم أكشاك لفنانين مغاربة من مختلف التوجهات والمدارس الفنية، يعرضون لوحاتهم طوال اليوم منذ الساعات الأولى وحتى أخر ساعاته، على أرصفة شارع أحمد المنصور الذهبي، أمام مارة تمر من الشارع بشكل دوري أو بالصدفة، يضطرون للوقوف والتجوال بين لوحات بعضها لشخصيات مغربية وأجنبية وأخرى انطباعية وتجريدية..تمنح للمكان جمالية وسحر أخاذ، بعيدا عن صخب ورتابة المدينة.

في سنة 2011، بادرت جمعية رباط الفتح إلى تغيير المظهر العام لشارع أحمد المنصور الذهبي، بإحداث فضاء ثقافي وفني يزاول فيه الفن المباشر أمام الجمهور؛ الفضاء الذي يعد الوحيد على المستوى القاري والعربي؛ ما يجعله مكانا استثنائيا وجاذبا بأكشاك تعرض لوحات تشكيلية، كسرت النمطية والرتابة في مدينة تعيش على وقع تكرار الأحداث والوقائع، بالقرب من المسرح الوطني محمد الخامس، حيث تتواجد الأكشاك التي يشتغل فيها فنانين يقومون بجعل الفن التشكيلي، عنصرا يساهم في التنمية المحلية والارتقاء بذوق الجمهور، الذي يبادر لمشاهدة الفنان أثناء اشتغاله على إحدى اللوحات قبل أن ينهيها بتوقيعه، ولما لا تجاذب الحديث معه..

مكان يحتاج إلى عناية واهتمام أكثر

الفضاء يحمل اسم الفنان التشكيلي الراحل محمد بن علي الرباطي، الذي عاش أيام الحماية الفرنسية، تم خلقه من أجل التعريف بأعمال فنانين عصاميين وأكاديميين، يتم اختيارهم بالتناوب على أكشاك لمدة ستة أشهر من كل التوجهات والمدارس التشكيلية، في هذا السياق زرنا الفنان محمد بنعبد الله خريج المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوانوالحائز على شهادات تقدير وطنية ودولية،الذي يستفيد من تجربة العرض بهذا الفضاء لمدة ستة أشهر، يقضي معظم وقته في أحد الأكشاك، يشتغل على رسم لوحات لفنانين وأشخاص (البورتري)، أكد أنالهدف من الرواق هو الارتقاء بالثقافة والفن بما يلبي احتياجات الجمهور وخلق أسلوب جديد من الجمال، من خلال الاشتغال المباشر أمام الجمهور على إحدى اللوحات قبل أن يتم عرضها في شكلها النهائي، العمل الذي يحتاج لجرأة وثقة وتركيز عال، بالإضافة إلى المساهمة في تأثيث المشهد الثقافي والفني، عبر عرض أعمال في الهواء الطلق أمام المارة من مختلف الفئات، بهدف تحقيق تواصل مباشر مع الجمهور وتنمية الذوق العام.

وإلى جانب كون الفضاء يشكل فرصة للفنانين التشكيليين والرسامين، لعرض لوحاتهم في الهواء الطلق، اعتبر الفنان محمد  الفقير مستفيد هو الأخر من تجربة العرض أن الفضاء الذي مرت عليه حوالي أربع سنوات هو مجال فني وثقافي مفتوح أمام العموم طيلة أيام الأسبوع، يسمح للمتلقين باكتشاف مجموعة من المدارس التشكيلية، كما أنه شاشة كبرى لعرض زخم من الألوان ذات حمولة ثقافية وتراثية، تطرح موضوع الاستلهام اللامحدود باعتبار أن الفنانين يعرضون ويشتغلون في الآن ذاته، مضيفا أن الفضاء نموذجي باعتبار أن الفن رسالة نبيلة.."

لكن رغم كل هذه الإيجابيات التي يتميز بها الفضاء، إلا أنه يجب أن يحظى بمزيد من الاهتمام خاصة على مستوى نظافة الشارع الرئيسي، الذي يعرف حركة دؤوبة لحافلات النقل الحضري لمقابلة إحدى محطاتها للأكشاك وما تسببه من ضجيج وصخب، لا يساعدان على تركيز الفنان أثناء عمله ومنح المكان سكون وهدوء، عدا إنارة الشارع التي تحتاج إلى تسليط الأنوار الكاشفة عليها في المساءلرؤيتهاإلى غير ذلك من الإكراهات التي يعاني منها المكان الفريد من نوعه، الذي كان يجب أن يكون للساحة كل المقومات الموضوعية؛ لكي تضاهي لما لا بعض الساحات الأوربية المختصة في ممارسة الرسم المباشر أمام الجمهور.

قصبة تجمع بين البحر والوادي والبر..

يؤكد الباحثون والدارسون أن قصبة "الأوداية" المنتصبة على هضبة عند مصب أبي رقراق، تختزل تاريخا يتجاوز العشرة قرون الماضية فهي في الأصل قلعة محصنة، تم تشييدها من طرف المرابطين لمحاربة قبائل برغواطة التي كانت تستوطن تامسنا، وازدادت أهميتها في عهد الموحدين، الذين جعلوا منها رباطاً على مصب وادي أبي رقراق، لشن حملات عسكرية ضد الأسبان وأطلقوا عليها اسم المهدية، لكن بعد الموحدين أصبحت مهملة إلى أن استوطنها الموريسكيون الذين جاءوا من الأندلس، فأعادوا إليها الحياة بتدعيمها بأسوار محصنة و جعلها مقرا رئيسيا لهم.

وتختزل القصبة العديد من التحف المعمارية من أسوار وأبراج وأقواس عريقة عراقة القصبة، التي تعود إلى بدايات القرن الحادي عشر، أيام اتخذها الموحدين كمنطلق من أجل الفتوحات والوصول إلى مناطق كشمال أمريكا والدول السكندنافية، حيث كانت القصبة تعيش عنفوانها وازدهارها في جميع المجالات وخاصة العمراني..، والقصبة تحتل مكانة خاصة في مدينة الرباط، فأحد أسوارها الحصينة تقابل مدينة سلا، وتطل على زرقة السماء وزرقة المحيط الأطلسي الهادر، وكل واجهاتها تجمع بين البر والوادي والبحر..

باب يقوم بتحصين تراث تاريخي من الزوال والاضمحلال

ويفتخر أهل حي"الأوداية" العتيق، كذلك ببابهم التاريخي، وهذا الباب الشامخ فوق هضبة صغيرة يشكل جزءا مهما من تراث الحي، الذي يعد واحدا من الأحياء المهمة المدرجة ضمن التراث العالمي من طرف منظمة اليونسكو، وباب "الأوداية" الكبير يؤدي مباشرة إلى الحديقة الأندلسية الفيحاء، التي تعد من أشهر الحدائق لما تحويه من أنواع الورود والأشجار ومن فضاءات ثقافية من ضمنها المتحف ومقهى تقليدي يعج بالسياح الأجانب، وإذا كان دور الباب في ما مضى هو تحصين المدينة من الغزوات، فإنه اليوم يقوم بتحصين تراث تاريخي من الزوال والاضمحلال، حيث اعتبره أحد السياح الأجانب بأنه، يجمع بين الروعة والجمالية ويختزل ثقافة عريقة للمغاربة تمتد لقرون عديدة..

في حين يقول المؤرخ عبد العزيز بنعبد الله عن الباب الكبير "أما الباب الكبير فيمتاز بروعته إذ يبلغ 38 متر وعرضه 16 متر وعلوه بين 12 و13 متر، وتحتوي طبقته الأرضية على ثلاث قاعات متداخلة وعلى طبقة أولى تحتوي على 5 ممرات وفوقها سطح يطل على مجموع القصبة وتعلو القاعة الأولى قبة سامقة مع حنايا جانبية، وتليها القاعة الثانية مقببة ومحلاة بمناجذ شبيهة بالجواهر المنظومة، أما الغرفة الثالثة فهي أوسعهم، أما الوجه الباطني للباب فقد ازدان بعضادات أو أعمدة مربعة تحمل مساند ناتئة تعرف اليوم بطاولة الجدار، ولا تزال بقايا التبليط القديم يغطي أرض القاعات".

لوحات فنية من نوع خاص رغم ما أصابها من إهمال

وبالقرب من المدينة القديمة، يظهر للناظر سور شامخ تتخلله أبواب وأقواس، اقترن اسمها بمآثر تاريخية ضاربة في التاريخ؛ حيث يعتبر "باب الحد"، وهو من أشهر أبواب مدينة الرباط، يقع وسط المدينة كما أنه المنفذ الرئيسي إلى المدينة العتيقة، إذ يعتبر موطن تجمع الباعة ويشهد حركة لا تتوقف أو تستكين حتى ساعات متأخرة من الليل، ومن الجهة الأخرى للطريق، باب آخر يؤدي إلى قلب المدينة، الذي ينأى عن صخب المدينة  ورواج التجار، رغم أصوات السيارات التي تكسر سكونه طيلة النهار أو صراخ مشاجرة من حين لأخر.

 لكن الذي يبدو واضحا للعيان بخصوص هذه المعالم التاريخية (الأسوار)، أن تتحول بعدما خصصت فيما مضى لتحصين المدينة من الأعداء، إلى مكان تتكدس به حاويات القمامة في صورة تضر كثيرا بصورة مدينة تاريخية كالرباط العاصمة، حيث يظهر وبشكل جلي الإهمال الذي طال الفضاء وخاصة الجزء الداخلي منه على عكس الجزء المطل على الطريق، الذي يعاني هو الأخر من شقوق وتصدعات جراء التساقطات المطرية الأخيرة، كما أنه تحول كذلك إلى مكان لمعاقرة الخمر وتجمع يؤوي متشردين من كل الأعمار، أمام أنظار الجميع، التي تنعي هذا الفضاء من المدينة التي أراد يعقوب المنصور أن تكون شبيهة بأختها مدينة الإسكندرية.

في حاجة إلى ترميم وإصلاح

وتمتاز أسوار العاصمة بنمط معماري يجمع بين الزخارف الأندلسية ونقوش مغربية أمازيغية، تؤهلها لكي تكون لوحات فنية تزين الفضاء وتضفي جمالية من نوع خاص، غير أن بعض الأجزاء من السور بالقرب من المدخل نحو قلب المدينة، تظهر عليه شعارات وجمل مكتوبة بخط متكسر وركيك تشمئز النفس من قرائتها، ونفايات تنبعث منها روائح كريهة بالإضافة إلى نمو شجيرات تنخر دعامات السور الذي يقاوم عوادي الزمان من أجل الاستمرارية..  

وتُحاول السلطات المغربية الحفاظ على المظاهر الجمالية التي تتميز بها هذه الأبواب وتعود إلى بداية القرن الحادي عشر عقب عودة الموحدين من معركة الأراك الخالدة، عبر ترميمها بين الفينة والأخرى لحمايتها من التلف والانهيار، أملاً في أن تواصل هذه التحف المعمارية أداء دور اضطلعت به لقرون من الزمن، حارسة للمدينة ومعبراً للسالكين دروبهاالمتشعبة والمتعددة في الزمان والمكان.

{facebookpopup}