في مثل هذا اليوم..
في مثل هذا اليوم من سنة 1982، لمست أول جسم غير رحم والدتي، إن يد طبيبة صينية كانت عابرة على مستوى أحد أروقة قسم الولادة بمستشفى الحسن الثاني، تدخلت للمساعدة بعدما سمعت أنين والدتي التي تحت رحمة آلام المخاض “الطلق”، بعدما رفض الأطباء المغاربة مساعدتها دون رحمة أو شفقة لوضع مولودها الذي لم يكن إلا أنا.
في مثل هذا اليوم من سنة 1982، صرخت أول صرخة احتجاج على سوء المعاملة التي حظيت بها والدتي عبر حنجرة لم يتجاوز عمرها الافتراضي دقيقة، ولم أعرف أن الحياة التي تنتظرني ستجعلني أصرخ مرات ومرات، تارة علنا عبر كتاباتي وتارة أخرى في داخلي.
يوم 31 يناير 1982، ميلاد طفل اسمه يوسف بلوردة سيمتلك فن صيانة الذات، الاعتماد على النفس، مقاومة كل الأنماط الاستسلامية الارتكاسية في الوجود، يأتي لينتفض على الظلام، ليرتفع عن خسة الجهل ويعانق رفعة العلم، يسمو عن دونية التفاهة المتداولة ويعانق شموخ وكبرياء أبرار الوطن.
في مثل هذا اليوم من سنة 1982، لم أكن أدرك أن مساري في هذه الحياة يشبه بكثير مركبا صغيرا داخل بحر هائج تتقادفه الأمواج، حيث منذ ذلك اليوم وأمواج الحياة تلطمني يوما بعد يوم، شهرا بعد شهر، عاما بعد عام، لأجد نفسي اليوم هنا والآن؟ أطرح نفس السؤال الذي لطالما بحث بين ثنايا الأيام عن جواب له؟ فيا ترى ما السر وراء تلك الصرخات الأولى التي لازمتني مند أن رأيت النور قبل 40 سنة؟ هل هو استجابة فطرية بمجرد الإحساس الأول بثقل الأمانة؟ أم هو نتيجة لهلع النفس بمجرد أن لامست خطورة الاختيار الذي انتقته روحي؟
توالت الأيام والسنون، ومحيطي العائلي يكشف أن التحصيل العلمي والحصول على الشواهد مفتاح التوظيف في منصب مهم، ولم يكن كل منهم على قناعة كافية أني سنة 2013 سأتمكن من تحصيل أكبر شهادة أكاديمية وطنية بالمغرب (دكتوراه) وبأرقى الميزات الوطنية وفي تخصص يثير الجدل وطنيا ودوليا (البيئة) ومن المعلمة العلمية لمحمد الخامس بالرباط التي لا علاقة لها بالجنس مقابل النقط، مع رصيد موازي من الشواهد العلمية لا يقل قيمة (دبلومين للماستر: الأول في البيئة والثاني في التغير المناخي)، لكن دون الحصول على تلك الوظيفة التي أنا مؤهل نظريا وعلميا لنيلها وفق نصائح محيطي العائلي.
مرت الأيام حتى وصلت لسنين، عندها اكتشفت أن الحصول على وظيفة بالمغرب لا يتطلب كل مساري العلمي والأكاديمي، بل لا يتجاوز وساطة عائلية أو زبونية سياسية لخياطة منصب وظيفي على المقاص يلج له محظوظو هذا الوطن، عندها أدركت أن صرختي الأولى سنة 1982 لم تكن إلا بداية لصرخات مفادها “في بلادي ظلموني” بصوت جماهير الرجاء العالمي أو “هادي بلاد الحكرة..ودموعنا فيها سالو” بصوت الإيلترات الطنجاوية.
سلمت للأمر الواقع وقررت وضع شواهدي العلمية جانبا أمام هذا الواقع المرير، والتفرغ للتفكير في نمط جديد لبناء مستقبلي فولجت عالم الصحافة الغامض والحافل بالمتناقضات، فذاك جاهل “أمي” لا يعرف فك الخط أو حتى تهجؤ جملة أو كتابتها ومعترف به من طرف وزارة الاتصال في ظروف غامضة، وهذا مثقف له رصيد من الإمكانيات العلمية والمعرفية لكن مبهم المستقبل، لأقرر بناء مقاولتي في مجال المعالجة الصحفية وخدمات الاعلام، خاصة بعد المبادرات الملكية لتشجيع الشباب الحامل للشواهد على ولوج عالم المقاولة، لكن لم أكن أعرف أن الرسائل والتعليمات الملكية السديدة لا تتجاوز عاصمة المملكة، بداية بالتغطية الصحية والضمان الاجتماعي لفائدة المقاول الذاتي الذي تم المصادقة عليه في قانون في وقت لا يطبق على أرض الواقع، وصولا إلى نسبة الفائدة التي أعطى صاحب الجلالة الملك محمد السادس تعليماته لكي لا تتجاوز 2 بالمائة لفائدة قروض المقاولة الذاتية “برنامج رواج، برنامج أوكسجين، برنامج إنقاذ…”، في وقت أن زيارة عدد من أبناك مدينة سطات، كشفت أن القروض تصل فائدتها ثلاثة أضعاف تعليمات ملك البلاد…
ربما كلماتي السالفة تشكل أحد مميزاتي، لأني أعترض ولا أعارض، أفعل ولا أقول، أواكب ولا أساير، أنضبط ولا أخضع، ضمير لا يدعي الحكمة لكن يكتب بها، وطني خام ومواطن أصيل، ربما استثناء في زمن الكائنات المتناسخة، مترفع في زمن التفاهة…، تربيت في حي شعبي اسمه “البطوار” لكني نزعت للأبد مهادنة الكسل والاستهتار، تنفست عبق تاريخ وجغرافيا وطني فرفضت أن تكبح تمدده تضاريسه مدرجات الجامعة ومناخ مقاعد المكاتب.
طورت بإمكانياتي الفكرية والعلاقاتية هذه المقاولة الفتية لتصنع لها مكانا وسط الساحة الإعلامية المحلية التي سرعان ما تريدتها، لكن لكل نجاح ضريبة من الحاقدين، الذين يصدق عليهم قوله تعالي “في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا”، فاتحد معظمهم لأول مرة بإقليم سطات، من أجل توجيه طعنات غادرة تحاول تارة النيل من كبرياء شاب طموح يقتات من المبادئ ويتغذى من الاخلاق، وتارة أخرى تحاول منافسة مقاولتي بطرق مهزوزة وملتوية، لكن سرعان ما تبين الخيط الأبيض من الأسود ليعودوا إلى جحورهم، يمارسون نفاقهم الاعتيادي، فعذرتهم إيمانا مني بأن “فاقد الشيء لا يعطيه”، لأواصل مساري بكل ثقة أن القادم أفضل.
منذ بداية البدايات عشقت الكلمة وداعبت القلم، ربما يعتبر أهل صاحبة الجلالة أن الصحافة مهنة لكني لطالما اعتبرتها موهبة لن تتأتى لأي كان، فعز علي أن يسقط اليراع ليستجيب لطيور الظلام، عز علي أن أخفي انسانيتي بأقنعة قذرة، أصريت على ان تبقى الراية مرفوعة والكلمة رائدة حتى وإن كان الزمن زمن جهل ورداءة، إيمانا مني أن “يوسف” الذي أطلق صرخة في صمت الرحم، قادر على جعل الناس يعشقون الكلمة ويميزون بين ثنايا اللغة المبتذلة والضاد السليمة، قادر على تقديم البشرى للقراء بعودة “السبع السمان ” منتصرة على “السبع العجاف”، للانتصار للعلم والمعرفة.
طموح مفتوح ومشروع دون الحاجة لنهج آليات الخبث والضرب من تحت الحزام، فقررت إعادة جدولة أجندتي العلمية بالعودة لاجتياز المباريات الأكاديمية، بعدما أنصت للإعلانات الانتخابية الاشهارية “تساهل ما أحسن”، لكن ماهي إلا أيام حتى تأكد أن الحلم مجرد أضغاث أحلام، لأتخلى لهم مرة جديدة عن وعودهم، وأعود أدراج خزانتي العلمية، التي تكللت مع مطلع سنة 2021 بإعلان جامعة ديانا انتل البريطانية منحي شهادة الدكتوراه الفخرية من الدرجة الممتازة مع مرتبة الشرف في مجال “الصحافة والإعلام”، وذلك بعد مناقشة عامة أجرتها الجامعة بالتنسيق مع هيئة الاعتماد البريطانية، لأكون أول اعلامي بعروس الشاوية ينال هذا الشرف.
المهم من هذا وذاك، سلمت أمري للواحد الخالق، وأحمده لأني كل عام و أنا بخير، حققت عدد من أمنياتي ولا زالت أخرى في طريقها للبزوغ.. اللهم إني استودعك عام قد قضى من عمري وأستعين بك على عام قادم وأوجه صرخة أخرى إلى كل الأصدقاء والأوفياء لشرف الكلمة، ولقداسة الحرف، ولطهر الكتابة، ممن بعثروا بعض حروفهم على حائطي الفايسبوكي مقدمين تهنئة لي بهذه المناسبة، أهدي هذه الكلمات…. وكل عام وأنتم بألف خير قرائي الأوفياء.