ربورطاج: “جردة البلدية ” بسطات ملاذ المسنين في أرذل العمر..رقع “الضاما” من أجل النوستالجيا والهروب المؤقت من رحى الزمن
يجمع قصر بلدية سطات، بسلاسة عجيبة بين كل المتناقضات، فداخل مطبخه أنتجت سياسات عقيمة جعلت المدينة تتقهقر على كل المستويات والأصعدة، فلا مساحات خضراء قابلة للحياة، ولا فضاءات للأسر والأطفال تمنحهم لحظات للاستجمام وتغيير الأجواء، ولا ملاعب تنقذ الأطفال من استعمال الشوارع ومواقف السيارات مكانا لإشباع هواياتهم، لكن وبغرائبية تستحق التوقف أمامها، استطاعت الحديقة المقابلة لمقر البلدية بفوضاها وعفنها وظلمتها وروائحها الكريهة أن تنقذ بعضا من الوقت الثالث لأطفال المدينة بعد تطويعها للتحول إلى ملعب ضدا في قواعد الرياضة ومستلزماتها وشروط السلامة الجسدية، ومكانا لتمضية "كل الوقت" وليس جزءا منه للمئات من المسنين الذين حولوا جنباتها لرقع "ضاما" تلتهم وقتا يعلمون بأنه ثمين لكن لا يجدون بديلا عن تمضيته في مكان لا يحترم كرامتهم بل لا يضع اعتبارا لكينونتهم كجيل أول قدم الكثير للمدينة.
صباح الخير "جردة البلدية"
في مكان يتخذ الشكل الهندسي لمثلت أمام القصر البلدي لمدينة سطات، بتقاطع شارعي الجيش الملكي والحسن الثاني، حيث تتناثر بضع نخلات مسيجة بإسمنت يجعل ساحة "جردة البلدية" تبدوا بشعة، وكأنه ينال من الشموخ المعروف في نخيل أكمل عقودا على غرسه بالمنطقة. على جانب الساحة صور قصير يفصلها عن مساحة خضراء تصلح للرعي، للعب الأطفال، لنزهة النساء، لاحتساء الكحول، ولكل شيء، ورغم أن الصور ملطخ بكتابة بخط رديء عن منع "البول ورمي القاذورات" إلا أن لهذه الجملة مفعول السحر في استقطاب كل منحرف أو ثمل أو يافع أو حتى مسن من أجل قضاء حاجته البيولوجية ما دام "الحاضي الله" وما دام الضمير مستتر، والمواطنة تتأرجح عند مؤشر الصفر إلا قليلا. وأغلب المارة يتحاشون اختراق الساحة ليس بسب كونها مملوءة بأناس أغلبهم مسنين يلعبون "الضامة" لكن بسب الروائح الكريهة، وبسبب غياب الإنارة العمومية بالليل، وتجنب "أصحاب الحال" من المتشردين والمنحرفين.
"ضاما" تجمعنا..
تتناثر مجموعات مصغرة مشكلة من أربع أفراد على الأقل وسط الساحة، والقاسم المشترك بين كل المجموعات، خانات مرسومة على الأرضية تشكل رقع "ضاما" و "فيتشات" لعب عبارات عن أغطية قنينات المشروبات الغازية بلونين مختلفين.
يستغرق شخصان يبدوا بأنهما في نهاية عقدهما السادس في التفكير قبل أي لعبة، وغالبا ما يلي إقدام أحدهما على حركة داخل الرقعة تعليق لاذع ينال من خصمه ويجعل القهقهات تتعالى استهزاءا به، قبل أن يرد الطرف الآخر بحركة وجملة تخرج من فمه وكأنه بذلك أزاح حملا على صدره بعد أن رد ثأره. الندية في اللعب حاضرة بقوة، والحافز الوحيد للاعبين هو تجنب التوبيخ والاستهزاء من المتفرجين.
بين الفينة والأخرى تسمع جلبة قادمة من إحدى المجموعات وتشرئب أعناق اللاعبين و المتفرجين لاستطلاع ما يحدث، قبل أن يكتشفوا بأن الأمر يتعلق باحتجاج ضد "نبار" وهو شخص يكون من بين المتفرجين لكن يدل سرا أحد طرفي اللعبة إلى حركة أو خطة لعب، فينفجر الخصم في وجهه وينهال عليه بقاموس خاص من السباب يجعل كل من في الساحة يضحك.
"ضاما" معول للنبش في الماضي ..
يقضي عشرات المسنين أغلب ساعات النهار داخل الساحة، ولا يشكل اللعب هدفهم الرئيسي، بخبرنا "عبد القادر" في الخامسة والستين من العمر بأنه يحضر كل يوم للساحة من أجل الالتقاء مع أصدقائه بالأساس، ولا يلعب "الضاما" نهائيا، يعتقد "عبد القادر" بأن الساحة تشكل بالنسبة له فضاءا وحيدا لكي يجد أشخاصا على استعداد لسماعه ولتبادل أطراف الحديث معه، ولاسترجاع جزء من الذكريات، واستعادة الماضي بنقطه المضيئة والغير مضيئة، كما أنها تمكن فئة عريضة من المسنين من التداول في مشاكلهم اليومية، "شكون باقي عندو الخاطر يسمع لشيبانيين" يضيف "عبد القادر" بصوت مبحوح و ابتسامة ساخرة.
وعلى خلاف محدثنا ينخرط "با لحسن" في بداية عقده السادس، في جولات لا تنتهي من اللعب، وما إن ينهي جولة فائزا حتى يبدأ أخرى، يتباهى بكونه أمهر اللاعبين داخل الساحة، وأسلطهم لسانا، الضحكة لا تفارق فمه، لكنها حسب تصريحه "للصباح" تخفي كل الضغوط التي يعانيها في الحياة، "با لحسن" متقاعد بمعاش لا يتجاوز 1100 درهم، ويعاني من مرض مزمن تلتهم أدويته ألف درهم من مبلغ المعاش، يقطن في منزل ابنه الوحيد، ويحرص على مغادرة المنزل صباحا حتى لا يجد نفسه وحيدا في البيت طيلة اليوم مع زوجة ابنه وصغارها، ولا يعود إلا في المساء، وبشكل أدق لا يعود حتى تنفض الساحة ويذهب كل شخص لحال سبيله. يتوقف "با لحسن عن اللعب للحظات ويبادرنا بالقول: "على عكس السائد في اعتقاد العديد فنحن لا نزال على قيد الحياة ومن حقنا أن نحوز الاهتمام والعناية ليس فقط من أسرنا ولكن من طرف الدولة كذلك، من حقنا أن نلعب وأن نمارس الرياضة وأن نسافر وأن نأكل وأن نضحك من حقنا أن نعيش"، أكمل جملته الأخيرة والتفت لرقعة اللعب وحرك قطعة، تم غمز خصمه وأطلق ضحكة ساخرة "هانا شديت الواد كي جيتك ؟"
على هامش المجتمع..
كل من التقيناهم يعتبرون بأن المكان أصبح جزءا منهم، لأنه يشكل المتنفس الوحيد بالنسبة لهم، وهو ما انتبهت له فعاليات جمعوية وحقوقية بالمدينة، "مدينة لا تحترم صغارها ولا توقر مسنيها، ولا تضع بعين الاعتبار حاجيات شبابها هي مدينة جاحدة تدير ظهرها لكل مظاهر التمدن والحضارة" يؤكد محمد أمين حوتي ناشط في مجموعة "سطات مدينتي" الشبابية، ويضيف "حوتي" بأن مشاهد مسنين يفترشون "الكارطون" بساحة مهملة مسيجة بالأوساخ والقاذورات، يشكل وصمة عار في جبين مدبري الشأن المحلي بالمدينة، فعوض تكريم جيل قدم الكثير للمدينة وتكالبت عليه مختلف الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وجعلت فئة كبيرة منهم يعيشون على هامش المجتمع، أمعنت المجالس المتعاقبة على تدبير شؤون المدينة في إقصائهم من برامجها وأولوياتها، حتى أن جميع الاحزاب التي تقدمت للانتخابات المحلية الاخيرة أسقطتهم من برامجها الانتخابية ربما لإيقانها بأنهم ليسوا أصوات انتخابية". ويقترح أمين حوتي بأن يتم التفكير في خلق ناد خاص بالمسنين يمارسون فيه هواياتهم، ويجدون متطلباتهم الأساسية ويمكن للمجتمع المدني أن يدخل شريكا في هذه العملية شرط توفر الارادة السياسية للمسيرين عبر توفير فضاء مريح لهم.
مؤشرات مقلقة..
رسمت مجموعة من التقارير والأبحاث صورة قاتمة لأوضاع كبار السن ببلادنا، إذ أظهرت سوء أوضاعهم في مجال الصحة وعدم قدرتهم على الولوج إلى وسائل النقل العام وعلى حرية الاختيار، وأكدت أن عددا كبيرا منهم يعانون الفقر ولا يتوفرون على التغطية الصحية.
وكان المجلس الاقتصادي والاجتماعي قد رسم بدوره صورة قاتمة لأوضاع الأشخاص المسنين في المغرب، إذ كشف عن ضعف قدرات الأشخاص المسنين عموما، من حيث المستوى التعليمي والوضعية السوسيو اقتصادية والصحية، بحيث إن 7 من بين 10 مسنين يعانون الأمية، فيما أغلبهم يتوفرون على دخل متواضع، وتقريبا شخص مسن واحد من بين 10 في وضعية فقر.مشيرا إلى أن أكثر من نصف المسنين مصابون على الأقل بمرض واحد مزمن، ولا يستفيدون من العناية الصحية، وأكثر من الثلث يحتاج إلى الغير لإنجاز بعض الأشغال اليومية.وأوضح المجلس في تقرير له إلى أن المسنين في المغرب يتعرضون للتمييز مما يصعب من اندماجهم على مستوى التغطية الاجتماعية والاستقبال في مراكز الإيواء والاستفادة من العناية والخدمات الصحية.
سطات لا تمثل الاستثناء
يعتبر العديد من رواد "جردة البلدية" بأنهم على الأقل وجدوا سبيلا لتكسير الحصار المضروب عليهم من طرف المدينة، عبر خلق عالم خاص بهم والانغماس فيه، غير آبهين بالظروف اللاإنسانية التي يجتمعون فيها، مؤكدين بأن رقع "الضامة" التي تتوسط جلساتهم ما هي إلا وسيلة لتجميعهم، وبأن أشواط اللعب التي يمارسونها يوميا ما هي إلا صرخات تحد في وجه ظلم مجتمع وتهميش مدينة.
يرمقنا "صالح" (53 سنة) بائع متجول للقهوة التقليدية الجاهزة داخل "الجردة"، وهو الذي لم نغب على ناظريه طيلة مقامنا بالساحة مستغربا أن تلفت هذه الفئة انتباه أحد، ويردد بصوت مسموع جعل أيدي اللاعبين تتسمر فوق رقع "الضاما"، "على الأقل دعونا ننتظر الموت بكرامة، ولا تقتلوا ضمائرنا ونفوسنا قبل الأوان بتهميشكم وإهمالكم".