ملف : القمار جري وراء أوهام لا تنتهي.. للإدمان على لعب القمار تداعيات إجتماعية كارثية
شباب ويافعون يجْرون وراء سراب الربح الذي سرعان ما يخبو ويتلاشى، ولا يبقى غير فراغ جيوبهم، بعد رهنها بأرقام ورموز وأشياء أخرى..تجذبهم كالفراشات نحو الأنوار التي تحرقها من دون أن تدري حتى فوات الأوان وكشفت الدراسة الميدانية، التي أجريت مؤخرا بمدينة الدار البيضاء أن 53 في المائة من العينة المستجوبة مصابة بالإدمان على لعب القمار، وأن الفئة الأكثر تعرضا للإدمان تعتبر ذات الدخل المحدود، وذات مستوى تعليمي أدنى.
كما أوضحت نفس الدراسة أن المدمنين على ظاهرة القمار يعدون من خانة الأشخاص الذين يؤمنون بمبدإ الإتكالية، ويعتقدون أن الحظ سيكون حليفهم وسيربحون أموالا طائلة بدون جهد أو تعب، الأمر الذي أوضحه المتحاور الأستاذ محمد الرامي أستاذ علم الإجتماع من خلال الحوار التالي الذي سيسلط الضوء على العديد من النقاط المتعلقة بالموضوع خاصة من الناحية الإجتماعية
"الرياشة" آلة لفرغ الجيوب
يحلمون بالحصول على مبالغ مالية، أرقامها تليها على اليمين عدة أصفار، بتعبئة أوراق تتنوع ألوانها وأشكالها وقواعد لعبها، لكن القاسم المشترك بينها أنها تفرغ جيوب المقامرين الذين لا يؤمنون سوى بمنطق الحظ، رغم الخسارة التي يتكبدونها بشكل متتالي، والمرات التي يحالفهم فيها الحظ تكون معدودة على رؤوس الأصابيع، لكنهم رغم ذلك مصرون على مواصلة المشوار.
في أحد محلات القمار المعتمدة من طرف شركة اليانصيب الوطنية، في حي العكاري، يتسمر كل يوم شباب ويافعون، أمام آلة يطلق عليها اسم "الرياشة"، نسبة لما تسببه من إفلاس للمقامرين، آلة عبارة عن جهاز أسود تعلوه شاشة تلفاز من الحجم المتوسط، تتضمن مجموعات من الأرقام والرموز، تعرف إقبالا كبيرا مقارنة مع باقي الأنواع الأخرى..
من المدارس إلى محلات القمار
في ركن المحل يجلس سعيد رفقة صديقه على كراس تآكلت جنباتها، يعبئون أوراقا تحمل اسم "الكرونو" خاصة بلعبة "الرياشة"، بقلم أكل من مؤخرته، في انتظار مرور الحيز الزمني، لتعلن الآلة عن النتائج، فيسجل جواد الأرقام الفائزة على كتاب الفلسفة للسنة الثانية بكالوريا، الذي تطايرت صفحاته الأولى، صمت وترقب يعم المكان تكسره بين الحين والآخر همهمات خافتة "ما عندنا زهر أصاحبي.." ما إن تنتهي الآلة من العد حتى تعلو على "المقامرين" الصغيرين علامات الغضب وخيبة الأمل التي علقاها على الأرقام التي اختاروها..
ينصرف جواد تاركا المجال لسعيد، الذي يبدو عازما على استرداد ما خسراه سويا، في حديثنا معه أثناء اختياره للأرقام التي سيراهن بها، اعتبر الأمر رهين بالحظ الذي يمكن أن يبتسم له في أي لحظة وينتشله من الفقر، لكن ما أن تعلن الأرقام الفائزة على الشاشة حتى يخبو أمله ويلتفت إلى جيبه ويجده فارغا..
رغم أن أوراق اللعب تحمل علامات منع على المراهقين الأقل من 18 سنة، إلا أن مختلف المحلات المعتمدة من طرف شركة اليناصيب الوطنية لا تولي للأمر أدنى اهتمام، وتترك المجال للآلة السوداء التي انتشرت في مختلف أركان المدينة في غفلة من الجميع، حيث تجد جميع الفئات العمرية قاصرون وراشدون ينتظرون دورهم بشغف كبير، لعل الآلة تحن عليهم ويتمكنوا من تحقيق حلم عجزوا عن تحقيقه على أرض الواقع..
الشباب والكهول كالفراشات التي تجذبها الأنوار…
وغير بعيد عن المحل المعتمد من طرف شركة اليانصيب، في حي العكاري ، أحد المحلات المتواجدة في شارع الحسن الثاني، هو الأخر يعرف إقبالا لمختلف الفئات العمرية تقريبا؛ بدء من الشباب وصولا إلى الكهول، يتقاسمون آمال تحقيق الثراء كالفراشات التي تجذبها الأنوار دون أن تدري أن سعيها يقودها إلى حتفها، لكن هدفهم شبيه بتحقيق المستحيل بالنظر إلى كون من يربح اليوم يكون خاسرا غدا، وخاسر اليوم قد لا تكون له فرصة اللعب غدا، ما يدفع به إلى الاقتراض، أو بيع ممتلكاته الشخصية.
محل لا تتجاوز مساحته العشرة أمتار، تؤمه مختلف الأعمار، ومن ضمنهم "با محمد" الذي يتهافت عليه البعض من أجل أخذ المشورة حول تخمينات نتائج مباريات كرة القدم الوطنية والأوربية، الخاصة بلعبة "التوتو فوت" و"الكوتي سبور"، بالنظر لتجربته الطويلة، بالإضافة إلى أنه ربح سابقا، كما أن له معلومات وافية حول الفرق، التي تكون مدرجة للمراهنة، يحكي لنا بينما يستخرج من جيب سترته أوراق نقدية مندسة بينها أوراق الرهان، عن تجربته بكلمات تنم على الندم "الله يعفو علينا"، والأمر ابتدأ ببضع دراهم إلى أن ارتفع الرهان ليصل إلى 100 درهم بشكل يومي موزعة بين مختلف أنواع الرهانات المرتبطة بكرة القدم و"الرياشة" وكدا لعبة "حك واربح"، التي تقوم على أساس الحصول على نفس الرموز أو الأشكال في نفس السطر..
ويردف "با محمد" أن زملاءه في الحي هم الذين شجعوه على القمار، ولعب المراهنات السريعة الخاصة بالورق ( "الكارطة" و"الرامي") بالأحياء والمقاهي الشعبية في البداية، ثم الأشكال الجديدة المرتبطة بكرة القدم التي تعتمد على التشطيب على المربعات بعيدا عن "التدليس والغش الذي يمارس في الشوارع ومحلات القمار"..
أصبحت كرة القدم والمراهنة أمران متلازمان إلى درجة لا يمكن فصل أحدهما عن الأخر، بل أن المجالين يكملان بعضهما البعض، حيث أن شركات القمار تستغل شعبية كرة القدم خاصة في صفوف الشباب من أجل استقطاب عشاقها وإغرائهم بربح الملايين، دون تجاهلنا لتدخل الشركات الكبرى في مسألة التلاعب بنتائج مباريات كرة القدم..
مقاهي تحولت لصالات خاصة برهانات الخيول
الزائر لأحد المقاهي في حي "الجيارين" بمدينة القنيطرة، يقف على الإقبال الكبير من طرف عدد لا يستهان به، ممن يدمنون الرهان على الخيول، حيث يرتكن مهووسو هذا الصنف من القمار على شكل جماعات، تراهم يتجادلون فيما بينهم حول الخيول، التي من الممكن أن تدخل في المراتب الأولى، يستعملون مصطلحات لا يفهمها غيرهم..
يحصلون على أوراق خاصة برهان الخيول، من طرف بائعي التبغ المتجولين أو ماسحي الأحذية، ثم ينهمكون في محاولة من أجل إيجاد مجموعة الخيول المفترض دخولها في المرتبة الأولى؛ سواء اختار "المقامر" الثنائي/ "كوبلي" أو الثلاثي/"التيرسي" أوالرباعي/"الكوارطي".. والذي أثارنا، أن تكون لهم دراية ومعرفة كبيرة، حول مؤهلات الخيول من حيث؛ الجري وأصحابها وغير ذلك من معلومات ومصطلحات باللغة العربية والفرنسة وحتى الإسبانية لن يفهمها غيرهم..
يجلسون في المقهى لساعات طوال لا يبرحون أماكنهم، طاولاتهم مليئة بفناجين القهوة التي فرغت إلى جنب لفافات تبغ أو حشيش، يغوصون في عالم الخيول ويعلقون أمالهم على خيول تبعد عنهم بمئات الكيلومترات في فرنسا أو بريطانيا، لعلها تحقق أمانيهم بالفوز بمبلغ مالي ينتشلهم من الفقر ولكن لن يخرجهم من دائرة الرهانات..
وضح لنا النادل قوانين اللعبة التي استعسر علينا فهمها بشكل جيد لما تتضمنه من مصطلحات ورموز غريبة، لا يفهم سرها ومعناها غيرهم، بد أن امتنع الجميع عن الحديث "لضيق وقتهم"، قال بأن القاسم المشترك بين كل المقامرين؛ هي تجرعهم للخسارة مرارا وتكرارا، ويظلون في انعزال تام عن العالم الحقيقي، ويعيشون مع الخيول، يعرفون عنها الصغيرة والكبيرة، وأضاف أن عالم رهانات الخيول، يجعل المدمنين عليها يعيشون أحلام يقظة ويبدلون مجهودات كبيرة، من خلال انهماكهم على إيجاد التركيبة الرابحة وسط مئات التركيبات..
"التيرسي" بحث عن "سراب الربح"
يظل هدف المهووسين بالخيول، هو الحصول على التركيبة الصحيحة، التي تأخذ منهم الكثير من الجهد العقلي وعشرات الدراهم، إن لم نقل المئات بالنسبة للبعض، يغرقون وسط الأرقام والمصطلحات، التي لا تنتهي بحثا عن سراب سرعان ما يتلاشى بعدما يتسابق الخيول في شاشة من الحجم الكبير في ذات المقهى، ويعودون على تعاستهم وعلامات الانفعال والغضب بادية على وجوههم، ثم يعيدون بناء آمال من جديد عن طريق اختيار تركيبة جديدة..وهكذا يقدون يومهم في المقهى، التي يعمرون فيها أكثر مما يعمرون في بيوتهم.
والملاحظ أن أغلب المدمنون في هذا المقهى الشعبي، هم من الفئات الفقيرة وبعض الموظفين، يبحثون على ربح سهل، يطاردونه طيلة النهار من دون جدوى تذكر والدليل ظاهر على كون أغلبية المرتادين لهذا المقهى، لم تتحسن وضعياتهم المادية منذ سنين خلت، بل منهم من أدى به الأمر إلى تفكك أسرته وبيع منزله من أجل مطاردة الوهم.
وتجدر الإشارة إلى أن عمر الصقلي، المدير العام للشركة الملكية لتشجيع الفرس، قال في أحد تصريحاته لمنابر إعلامية منتصف السنة الماضية أن "المغاربة ينفقون ما قيمته 500 مليار سنويا على رهانات سباقات الخيول، ويعاد توزيع 70 في المائة منه على المراهنين على شكل أربح.." ما يطرح يستدعي دق أكثر من ناقوس حول هذه الظاهرة التي تسللت إلى مجتمعنا في غفلة من الجميع.
"الكارطة البلدية" في الأحياء الشعبية
بعيدا عن صالات ومحلات الرهانات، في نهاية أزقة الأحياء الشعبية والحدائق العمومية والمؤسسات التعليمية، يتجمع شباب بمختلف الفئات العمرية حول بعضهم البعض، وأعينهم تتراقص بين ماسك الورق والسيارات، خوفا من رجال الشرطة من جهة والغش من جهة أخرى، بعدما كانت تقتصر الظاهرة على بعض المقاهي الشعبية، انتقلت إلى الشوارع في مشهد يسيء كثيرا للمدينة.
تعتبر هذه الممارسات السلبية التي تقتصر على الأحياء الشعبية وبعض المقاهي، والنموذج من الحدائق المتواجدة بالقرب من المحطة الطرقية "للقامرة " والمدارس العمومية، إذ أن أغلب الذين يقامرون في هذه الأماكن من الفئات الفقيرة وشباب الشوارع، الذين يراهنون بأموالهم الخاصة من أجل الحصول على ما في جيوب بعضهم، وتتم العملية بما يعرف "بالكارطة البلدية".
قبل سنين خلت لم يكن الشباب، يقبلون على لعب "الكارطة" في الحدائق والمقاهي الشعبية، إذ كانت مقتصرة على كبار السن في مشهد ألفناه، لكن لم نكن لنتخيل أن تأخذ بعدا "سرطانيا" في الممارسة في صفوف الشباب، الأمر الذي سينجم عنه تدميرا "للخلايا الأسرية"، والمحاكم العدلية وصفحات الجرائد المختصة تعج بها…
الحكمة الشرعية من التحريم
حرم الله عز وجل القمار وذلك في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"،والحكمة من تحريمه، يظهر من خلال عدة أسباب من ضمنها:
القمار يجعل الإنسان، يكسب المال من خلال الحظ ويبني آمالا فارغة، بعيدا عن العمل والجد وعرق الجبين، زيادة على كونه أداة لتشتيت العائلات، وحسب بعض الدراسات فإن 80 في المائة من المقامرين يعانون من مشاكل أسرية، زيادة على ما يسببه من إذلال وعداوة بين المقامرين، وأبسط تعريف يمكن أن نطلقه على المقامر هو من يراهم بماله الخاص من أجل الحصول على ما في جيب غيره.
والقمار ممارسة تقتل الوقت وتبدر الجهد في أمور أقل ما يمكن القول عنها أنها "أحلام طوباوية"، وتدفع بصاحبه إلى الإفلاس رغم أنه قد يكسب اليوم، لكن الغد سيخسر أكثر مما جني، دون أن ننسى ما يرافقه من سرقة وغش، الشيء الذي سينجم عنه صراعات وتوليد الحقد بين اللاعبين.
وتعرف جلسات القمار أجواء يصاحبها شرب الخمر وتناول المخدرات، جلسات تكون مرتعا لأصحاب السوابق العدلية والمنحرفين، الذين قد يختلط معهم الهواة فيكونون ضحايا لهذه الجلسات التي تبيع الوهم ويكون الكاسب هو من يجيد الغش والسرقة.
{facebookpopup}