سطات.. أش بكاك يا نوارة؟
أبدع السعوديان عادل السهلي وزينب بنت جابر بحروف تفيض غنجا ودلالا في رائعتهما “المدينة الضائعة”، حيث لا أعرف السبب، الذي جعل هذه الرواية تشدني، بقدر جعلني بين مطرقة المدينة الضائعة كواقع وفق الرواية المذكورة، وسندان المدينة الفاضلة الأسطورية “أطلانطس” كحلم وفق مؤلف أفلاطون.
سطات الوديعة، الجميلة، الهادئة واليتيمة، لا تستطيع نزع الحداد وهو أمر واقع، لا يختلف حوله إثنان، المستفيد من خيراتها يقر بأنها في حداد، وخائب الرجا من لم تسعفه ظروفه للاستفادة، يقول أيضا بأنها في حالة حداد، المواطن البسيط لا تخطئ عينيه، كون ملامحها شاحبة، أعينها جاحظة، يرتسم الأسى ببشاعة على ملامحها…
ماذا يحزنك يا سطات .. ما الذي يبكيك يا جوهرة؟ نهلا بالأغنية الشهيرة “أش بكاك يا نوارة.. أش خلا دمعك تسيل” للشاب ميمون الوجدي.
أ هو ماضيك المسروق..
حاضرك البئيس..
أم مستقبلك المجهول ..
مدينتي سطات، لك الحق أن تحزني، وتتوشحي بالسواد، ما دام الفضلاء من أبنائك يستمرون في الصمت، يستمرون في التطبيع مع الواقع، يستمرون في الاكتفاء بلعن الظلمة التي تخيم على سمائك، يستمرون في تزكية البشاعة والقبح، مادام ذوو النوايا الحسنة من أبنائك مختلفون حول مداخل الإصلاح ومخرجات الحلول، حيث أنا ومعي الآخر “جيل بأكمله” يبحثون عن معنى لحياتهم وتحقيق ما يحلُمون به، في محاولة حثيثة لاستعادة توازن مفقود وفق رواية “حارس المدينة الضائعة” لكاتبها الفلسطيني ابراهيم نصر الله.
مدينتي سطات، لا تستحقين هذا الكم من الانتهازيين “مع الرابحة” الذي يتربصون بك، لكن لحسن الحظ، فالتاريخ يخبرنا، أن الليل مهما طالت حلكته، يزيحه صبح أنيق، وحتى لو عجزنا اليوم على أن نمنحك ما تستحقين، فلا بد من يوم يزحف لنصرتك فرسانك الحقيقيون، ممن يعتبرون بأن قوتك من قوتهم، وتألقك من تألقهم، وجمالك من جمالهم، وعظمتك من عظمتهم..
مدينتي سطات، بصدق، الأسود لا يليق بك… وأتذكر، أني وآخرون، طيبون لدرجة السذاجة، ماهرون في النقد، لا يعجبنا العجب ولا الصوم في رجب، نحن مواطنون متحدون لتقريع الآخر والآخرين، ولو أننا نتفاجئ بين الفينة والأخرى بعشاق الركمجة “ركوب الأمواج”، الذين يتربصون بخربشاتنا لامتطاء صهوتها أملا في الوصول إلى “الولاء”، ما يعيد ذهني إلى مقولة ساخرة منسوبة للمرحوم “العربي باطمة” لست متأكدا من دقتها، لكنها تفسر الكثير، حيث يقال بأن “باطمة” في إحدى جلساته الغيوانية، قال لمجالسيه “غنينا ليهم باش يفهمونا .. ساعا هزو البنادر وتبعونا”، أو ما جاد به في نفس السياق، الفنان الشعبي عبد العزيز الستاتي في أغنيته “ويلي مغواني، كلامي معنى، ماشي غنا”، دون الحاجة لتفسير أو تشريح ما يخفيه منسوب الكوميديا السوداء في هاتين المأثورتين من الرسائل الظاهرة والمبطنة، على اعتبار أن “الحر بالغمزة والعبد بالدبزة”. فرجاء لا تلبسوا شرفاء أقلام صاحبة الجلالة زيغ البعض منها !!!
حال مدينة سطات، لم يعد دون شك، يسر حبيبا ولا عدوا منذ سنوات، لكن الأسوأ هو ما نعيشه اليوم، حيث تقف مدينة “سيدي لغنيمي” برمتها على حافة الإفلاس، دون الحاجة لسرد الأسباب والمسببات، فالكل بات يعلم مكامن الخلل، اللهم البكاء على أطلال الماضي المجيد.
يا سادتي الكرام؛
حديثنا على الماضي، يجرني إلى المثل الشعبي “بارك بارك خود عمتك”، حيث تذكرت المأثورة وأنا أتابع هذه الأيام، تحركات متفرقة شذر مذر “في كل الاتجاهات” لبعض الساسة رفقة طابورهم الخامس، لإقناعنا كونهم “المهدي المنتظر”، حيث يتضح أن “العمة” هنا وفق المثل الشعبي السالف ذكره هو كرسي رئاسة جماعة سطات.
يا سادتي الكرام؛
ربما وجب علي أن أذكركم لعل الذكرى تنفع المؤمنين، أنه عندما وقف “نيرون” في شرفة قصره يتمتع برؤية روما وهي تحترق بكامل مجدها، كان يقف إلى جانبه مرافقه الفيلسوف “رينون”، فسأله “نيرون” كيف وجد منظر روما وهي تحترق، فقال له الفيلسوف: “إذا احترقت روما فسيأتي من يعيد بناءها من جديد، وربما أحسن مما كانت عليه، لكن الذي يحز في نفسي هو أنني أعلم أنك فرضت على شعبك، تعلم شعر رديء فقتلت فيهم المعاني، وهيهات إذا ماتت المعاني في شعب”.
ولعل أبلغ ما يلخص المعاني السالفة، ما قاله محمود درويش في إحدى قصائده الرائعة حول موت المدن وخلود المعاني: “نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل، وحبوب سنبلة تموت فتملأ الوادي سنابل…”
وبما أني أعتبر نفسي أحد سنابل مدينة سطات، التي لا زالت لم تمت، فقد قررت وضع أصبعي على من يتلفع بأردية الشعارات البراقة، وفي ضغينته تحويل عاصمة الشاوية إلى بقرة حلوب تتناوب حاشيته على ثدييها، حيث أتوسم من القارئ الكريم، أن يستخدم العقل والتدقيق والتمعن العميق، قبل الإقدام على إصدار الأحكام، إن الرأي العام لا ينبغي أن ينجر وراء اجترار الشعارات، مثلما تجتر البقرة الربيع وفق مضمون المقرر الدراسي لأجيال الثمانينات “قرد، بقرة، برتقال” ، بقدر ما يحتاج إلى مراجعة شاملة لمختلف الأحداث والمشاهد البائسة التي آلت إليها مدينة سطات.
يا سادتي الكرام؛
إن اللون الأسود الذي يطغى على المدينة، والاحتجاج الصامت الذي يكسر الهدوء الزائف، وبراكين الغضب التي تشتعل بداخل من لا يزال يملك قلبا نابضا بحب الوطن، وضميرا صاحيا صادقا اتجاه أميرة الشاوية، تسمر أمام هول التدجين أو التطبيع غير المسبوق، الذي لا أجد له جوابا إلا في قول سبط بن التعاويذي “إذا كان رَبُّ البيتِ بالدفِّ ضارباً.. فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرَّقصُ”…، وحتى من فاته إمكانية استيعاب وإدراك فحوى البيت الشعري السالف، أحيله إلى المأثورة الغنائية للفنان الشعبي عبد العزيز الستاتي “وا الأيام عطات للرذالة، غابو اللي كانو رجالة، وبانو اليوم شي حوالة، إليقو للضحاية”.
يا سادتي الكرام؛
نسْتنكر، نشْجُب، نُطَالب، نَسُب، نُشَهر..، كلمات من قاموس أضحى يؤثث الخطاب الانتقادي خلال مجالس السطاتيين، وخصوصا على مستوى الفضاء الأزرق “فايسبوك”، حيث تنتزع عدد من الأحداث تعليقات رافضة، مرحبة أو ساخرة، لكن هل يتم استحضار ذواتنا العاقلة، الواعية عند مقاربة هذه المواضيع؟
ربما اختصر أبو قاسم الشابّي حالنا بجملة، “ومن لا يحبّ صعودَ الجبال يَعِش أبدَ الدهرِ بين الحُفر”، لكن لم يعلم هذا الشاعر القدير ما يمكن أن يملأ تلك الحفر من ظلمٍ ووجعٍ وقسوة، حيث من سخرية القدر أنّ الجملة المذكورة أتت في قصيدة عنوانها “إرادة الحياة”. ما يجعلني ومعي الآخر نطرح سؤالا عريضا “هل ما زلنا نملك إرادة الحياة داخل مدينة سطات؟”.