مُولْ الإِرْكَاتْ في مدخل المدن.. واشْ سْمَعْتُو المُدونَة وَلاَ نْقُولْهَا لِيكُم أنا
عادت الأغنية الشهيرة للفنانة نجاة اعتابو “واشْ سْمَعْتُو المُدونَة وَلاَ نْقُولْهَا لِيكُم أنا” إلى الواجهة، بعدما صدرت منذ عقدين من الزمن، تزامنا مع خروج مدونة الأسرة إلى حيز الوجود، وهي فترة كانت كافية للوقوف على نقاط قوة مدونة الأسرة ومكامن ضعفها، فالجاحد أو المتعصب لرأيه، من سينكر أن المدونة حققت، خلال هاته الفترة، مكتسبات ملموسة، إلا أنها لم تستطع أن تصل إلى مستوى التطلعات المرجوة من تعديلها، حيث لا زالت الكثير من الاختلالات المرتبطة بالنص في حد ذاته، الذي يسمح بالتأويل في مختلف الاتجاهات، ما يمنع التطبيق القضائي السليم لمقتضياتها.
سادتي الكرام؛
من البديهي أن يرافق مراجعة قانون مدونة الأسرة، لغط ونقاش مجتمعي عمومي وصل إلى استرجاع بعض المستملحات التي عادت إلى العلن كـ “مُولْ الإِرْكَاتْ”، الذي يقبع في مداخل المدن في انتظار المطلقات اللواتي نجحن في الاستحواذ على ثروة أزواجهم، نتيجة تسريبات لعدد من التعديلات والمقتضيات دون أخرى، أجزم أنها غير بريئة البتة، حيث أن التسريبات خلفت ردود فعل متباينة، وهذا راجع أساسا إلى أن هذا القانون سينظم مؤسسة رئيسية في تشكيل وبناء المجتمع من جهة، وكون مراجعة القانون المذكور يأتي في سياق دولي له تداعياته الحداثية من جهة ثانية، لكن تظل المارة الوحيدة، هي الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة التي نصت بشكل صريح على أن المراجعة يجب أن تقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها التطبيق القضائي لأحكام المدونة فقط.
سادتي الكرام؛
رفع موضوع المدونة، سقف التفاعل على الوسائط الإلكترونية، حيث زاد اهتمام المغاربة خلال الأيام الأخيرة بموضوع التعديلات، بعدما تقاطعت الآراء في قوالب متعددة منها ما هو فكاهي أحيانا، حيث شكلت مادة دسمة لعشاق روتيني اليومي للتعاطي معها بشكل ساخر في المنحيين، بينما اعتبرها آخرون مصدرا لنقاش عمومي قانوني وفقهي جاد، بعدما جاءت بعض هذه المقترحات مخيبة لآمال البعض ومطمئنة لآخرين، فإذا كانت مخرجات مراجعة المدونة تتضمن تعديلات منصفة ومهمة، مثل تمتيع المرأة بحق النيابة القانونية وحق الحضانة، والاعتراف بحالات الزواج العرفي لتقنين الأوضاع القانونية وحماية الحقوق، بشرط التوثيق لاحقا، وتفعيل مقترح المجلس العلمي الأعلى، بخصوص موضوع إرث البنات، وجعل الطلاق الاتفاقي موضوع تعاقد مباشر بين الزوجين دون الحاجة لسلوك مسطرة قضائية، لكن في نفس الوقت تضمنت المادة المتعلقة بتعدد الزوجات جنوحها إلى مزيد من التضييق على التعدد بشروط أقرب إلى المنع من الإباحة،
سادتي الكرام؛
تسريبات مشروع مدونة الأسرة في هذا الوقت بالذات، لها غاية محددة ولم تكن الأولى في نفس الموضوع ولن تكون الأخيرة، حيث أنها تسريبات منتقاة بإحكام ومرتبة بإتقان، ومطروحة عن قصد وإصرار وفق قرائتي الشخصي، لأن في في ثناياها ثغرات وألغام، طلائعها نثرت بدور الشك، وتحسس المتفاعلون بشأنها أماكنهم وكأنه تحت وطأة زلزال طيفي، فالأصل في الزواج هو إطار لتنظيم الحياة بين الرجل والمرأة، ويساعد على استقرار الأسرة ويتكلل بناشئة يحققون إرادة الله من خلقه.
لكن يا سادة، ما تم تسريبه يزيغ بالزواج عن تلك الأهداف الخلاقة، إلى رقعة شطرنج يتناطح فيها الجميع لقتل الشاه، وتنتهي المبارزة ليتم عد الربح والخسارة، حيث يراد بها توجيه الرأي العام إلى واقع مادي محظ، تحت يافطة “من يكسب من”، وكأن الزواج مجرد تجارة، وجب على الراغبين في الولوج لها التزام الحيطة والحذر لتحقيق المكاسب.
سادتي الكرام؛
وفق منطقي الثقافي والمعرفي الرفيع وزادي الفقهي المتواضع، فلا اجتهاد مع وجود نص قرآني صريح، فالله أنزل شريعته من فوق سبع سماوات، كاملة مكتملة بدليل قوله تعالى “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”، لكن أن ينبجس مرء من مجرى البول لرئيس الجزائر، ويحاول تصحيح الشريعة الإلهية فهذا اجتهاد أو قول يجانب الصواب، حيث ان القضايا الجدلية في التعديلات تشمل التعدد، الميراث، والمساواة، كما تعتبر هذه المقترحات تجاوزا خطيرا يهدد استقرار المجتمع المغربي، فبالنسبة لمنع التعدد أو تقييده بشكل غير مبرر يعد مخالفة للشريعة الاسلامية التي أباحته بضوابط تحقق العدل والحرية والمساواة بين الجنسين، كما أن فرض قيود دون سند قانوني يفتح الباب أمام تشريعات غير متوازنة، كفضلا على أن مقترح استثناء بيت الزوجية من التركة فهو وفق تقديري تحريف للشريعة ومصادرة لحقوق الورثة، مما قد يزيد في خلق النزاعات العائلية ويزعزع استقرار الأسرة، دون الحديث على أن بعض التعديلات المقترحة، قد تفشل في معالجة مشاكل العنوسة والطلاق، بل أنها ستضيف تعقيدات قانونية تشجع الشباب على رفضهم للزواج، الشيء الذي قاد الفنانة إلهام واعزيز إلى التعليق على الأمر بالقول “غنبقاو نسمعو الزغاريد غانعرفو غير شي واحد نجح في الباكالوريا أما الزواج فالودااااع”.
سادتي الكرام؛
المطلوب هنا هو تشريعات متوازنة تضمن حقوق الطرفين دون الإخلال بالقيم المجتمعية أو الشرعية، على اعتبار أن التعديلات المرتقبة تضع المغرب أمام خيارين: إصلاح حقيقي يراعي القيم الشرعية والواقع الاجتماعي، أو تحريف واضح للشريعة الاسلامية يؤدي إلى انهيار الأسرة، لكن الإصلاح يجب أن يقوم على أسس عادلة، بعيدا عن الإملاءات الخارجية والتجارب غير المدروسة، لضمان تماسك المجتمع واستقراره.
المطلوب اليوم يا سادة، ليس هو إنتاج قانون جديد وكفى، فالقانون لا يمكن أن يغير ذهنيات المجتمع، بل المطلوب قانون بمواصفات خاصة، قانون لا يترك مجالا واسعا للسلطة التقديرية، قانون لا يتعارض مع نصوص أخرى تنظم الفاعلين في الأسرة، قانون يقطع مع المساطر البيروقراطية البالية، قانون يحترم مرجعيات وتطور المجتمع، قانون يحترم العقائد الدينية والهوية الفقهية للمملكة المغربية الشريفة التي تقودها إمارة المؤمنين، إننا في حاجة لقانون يدفع الأسرة نحو الأمام لا أن يجرها نحو الخلف في انتظار وصول “مُولْ الإِرْكَاتْ”.، لاستدراك ما جادت به حناجر مجموعة ناس الغيوان في أغنيتهم الشهيرة “تَبْني وتْعَلي وتَمْشي وتْخَلي”.