رغم تحولك إلى سجن معنوي ومقبرة لمن بقي من أهلك على قيد الحياة سأظل وفيا لحبك إلى إشعار لاحق…
القادم من اتجاه البيضاء مع فترة غروب الشمس نحو مدينة سطات عبر مدخلها الشمالي تتراءى له مدينة "لغنيمي" كأميرة يعلو رأسها تاج منطقة الشاوية بألوان إضاءة زرقاء خافتة منسابة برونق أخاذ وبجوارها لون بياض ناصع لنوع آخر من الانارة في هوامش شارع الحسن الثاني نصب المجلس الإقليمي نفسه وليا لها بعد وفاة أبيها، تتوسطها خضرة ما تبقى من الغابات بعد تقزيمها في إطار مقاهي استثمارية لتحلق بك تجليات الهدوء التي يوحي بها المكان الى سماء الارتياح النفسي، و تداعب جمالية اللوحة الطبيعية للشاوية ويقبل نسيمها البارد وجنتيك ويرسم فوقهما حمرة ملفتة، فتغوص مخيلتك في عمق الرسم الإلهي الجميل الذي لطالما افتقدته العديد من مدن المملكة التي اغتصبها التعمير من جوانبها، وما أن يدغدغ الهدوء دواخلك ويرخي الفضول بظلاله عليك حتى توقظك أول حفرة بالمدينة ما بين عمالة سطات ومحكمة الاستئناف عبارة عن بالوعة لتصريف مياه الأمطار مكسرة الغطاء، لتستيقظ من وردي أحلامك فيتوالى السقوط المتكرر بالحفر التي وزعت على مختلف الطرقات بما فيه وسط المدينة نتيجة الإهمال الطويل واخرى تتعلق بأوراش لم يتم ترميمها بشكل تقني محكم تعقبت تكسية الشوارع بالإسفلت..
وما تفتأ تستيقظ من حلمك وتخطو الخطوات الأولى بداخل لوحتك التي رسمتها سلفا في مخيلتك بأقلام إحساسك وفرشاة بصرك لتتكسر تلك الصورة المزيفة على صخرة عدسة الواقع من خلال صورة حمار مربوط بإحكام في حائط اعدادية مولاي اسماعيل، وسرعان ما يتبدد سحر الطبيعة وينجلي جمال الصورة الكاذب أمام صور قصف المشاريع الجامدة من خلال عبورك لبناية ضخمة جسد بدون روح اسمها "مشروع المسرح البلدي"، حيث تنعطف عبر شارع الجنرال الكتاني هاربا من بشاعة البناية المهجورة مارا عبر حديقة البريد التاريخية التي لم يتبقى منها إلا الاسم لتضطر للتوقف لحوالي 50 ثانية بالإشارة الضوئية لساحة الحرية ليسرق انتباهك صناديق قصديرية كأنها دور صفيح بجوار البريد المركزي للمدينة يتضح أنها مخصصة للدعاية لبيع تجزئات سكنية فتتردد محاولا تجاوز الإشارة الضوئية ولو أدى بك ذلك لأداء مخالفة في السير، لتضطر للتوقف قصرا مرة أخرى بسبب الاكتظاظ والعبور غير القانوني للراجلين وسط الشارع نتيجة وجود عشرات الفراشة استعمروا طوار ساحة الحرية وأبواب الأبناك المتواجدة في هوامش هذه المدارة، فتحاول اللجوء لركن سيارتك والترجل للسير على الأقدام لتسهيل تفقد أحوال مدينة "لغنيمي" لتصطدم باحتلال مرآب السيارات أمام قيسارية الشاوية من طرف نوع آخر من الفراشة… هذه المشاهد المأساوية تجعلك تحاول الهروب منها مضطرا فتحول تجاوز السيارات المتكدسة بسبب الازدحام لتكتشف أن الأمر يتعلق بعربات مجرورة بالدواب تسير خيلاء في شارع محمد الخامس معرقلة السير والجولان، فتفتح النافذة محاولا الحديث مع سائق العربة للإسراع فتصفعك رائحة نتنة تزكم الأنوف بعدما اختار بعض الساكنة التبول في حديق لا تبعد إلا بضعة أمتار عن قصر بلدية سطات في ظل غياب مراحيظ عمومية فتعود مسرعا لإغلاق النافذة والاقتناع بالأمر الواقع…
اللون الأسود يطغى على مشهد قلب المدينة والاحتجاج الصامت يكسر الهدوء الزائف وبراكين الغضب تشتعل بداخل من لا يزال يملك قلبا وإحساسا صادقا اتجاه أميرة الشاوية قادما لتفقد مسقط رأسه أو قاطنا بها، في حين تم تدجين البعض الذين سلموا ضمائرهم قربانا لجشع بعض المسؤولين.
فمدينة سطات التاريخية والتي ترنمت كتب تاريخية تؤرخ للفترة الاستعمارية وأخرى ترجع لفترة بعد الاستقلال والتي تصف بالتفاصيل جمالية الفضاءات الخضراء و مساهمة المدينة الفاعلة في الاقتصاد الوطني تنتهك في صمت. ففي غياب مواطن غيور يؤمل منه تفعيل دور المساءلة و المحاسبة والمراقبة أو أصابه الاحباط نتيجة غياب البديل أو قبس من ملامح التغيير، حيث وجد بعض المسؤولين والساهرين على تدبير الشأن المحلي ضالتهم وفرصتهم للاغتناء على حساب معاناة السكان وعلى حساب التنمية وانشغلوا بالنصف الفارغ من الكأس في مدينة فقدت أبسط المؤشرات التي تدل أنها حاضرة وليست منطقة ريفية…
في ظل هذا الوضع المقلق شد كثير من ساكنة المدينة الرحال نحو باقي مدن المملكة باحثين عن آفاق أفضل لأبنائهم و هاربين من طاعون الركود الاقتصادي، وفارين من المستنقع الذي غرقت فيه المنطقة، حيث تفشت البطالة بشكل مهول في صفوف الشباب لغياب مشاريع أو استثمارات بإمكانها خلق فرص شغل حقيقية لهم ليصبحوا عالة على المجتمع وأسرهم، ناهيك عن افتقار المدينة لمؤسسات و مركبات ثقافية ورياضية وترفيهية لكسر الجمود الثقافي والتربوي الذي باتت تترنح على إيقاعه المدينة.
إن القيام بجولة تفقدية بسيطة لعروس الشاوية يبين بالملموس بأن مدينة سطات التي تتردد على أفواه المغاربة كأميرة الشاوية تحتضر وأشبه بالقرية منها بالمدينة حيث طاعون الحفر المترامية أتى على مجمل الطرقات، ومركز المدينة عبارة عن سوق للباعة المتجولين و أطلال المشاريع خاوية على عروشها وانتشار الدواب و العربات المجرورة يذكر الزائر بالقرى المغربية لسنوات السبعينات، كما ان التعمير زحف على الأخضر واليابس دون أن يوفر أدنى شروط الخدمات المتعارف عليها في قانون التعمير، بالإضافة أن عدد المقاهي يفوق بكثير حجم هذه المدينة مما يطرح علامات استفهام كثيرة؟ ومع بعض التحري يتضح بأن المقاهي ومقاهي الأنترنت هي أغلب الأماكن التي يقضي فيها شباب المدينة العاطل وقته لأسباب سبق ذكرها.
هناك فوارق بين واجهة منمقة للزائر على طول شارع الحسن الثاني و خلفية تعيش سنوات الضياع، فقد قاومت المدينة الأبية وصمدت طويلا، لكنها في نهاية المطاف قوضت أركانها واقتلعت جذورها التاريخية فلم يكن للمدينة اليتيمة إلا أن تستسلم لأمرها المحتوم الذي قضي عليها، وآلامها تتضخم يوما بعد يوم، وجراحها غويرة، رسمت العقليات المتولية لزمام تدبير سطات على اختلاف مستوياتهم والقطاعات التي يدبرونها خدوشا عصية على الاستيعاب… واقع خاص من طراز آخر جعل المدينة تفقد كل شيء من أبسط أولويات ومقومات الحياة، لم تعد مدينة بل هي سجن معنوي ومقبرة لمن بقي من أهلها على قيد الحياة، ومن أهلها من اختار الهجرة من أجل حياة كريمة في مدن مجاورة متنكرا لأصله، ومنهم من آثرها سجنا ومقبرة له، مقبرة للجميع للصغير والكبير والشيخ والشاب والرجل والمرأة، والأمي والجاهل والعالم والمبدع…
أصبح التخلص من هاته المعضلات والمظاهر القروية قضية لا تؤرق المسؤولين عن التدبير فحسب، بل كذلك المواطنين والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، الذين يسعون للتعامل معها بما يحقق التنمية، ويحد من المخاطر التي تخلفها تلك المشاريع الواقفة التي تنتظر من يحركها وأخرى تحركت بوثيرة متسارعة لكن دون احترام بطائقها التقنية في ظل غياب التتبع والتقييم. ومن هنا وهناك فرغم تحولك إلى سجن معنوي ومقبرة لمن بقي من أهلك على قيد الحياة ومع ذلك سأظل وفيا لحبك إلى إشعار لاحق…